كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الحجة الرابعة عشرة: لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماسًا للعرش، أو مباينًا له ببعد متناه أو ببعد غير متناه، والأقسام الثلاثة باطلة، فالقول بكونه فوق العرش باطل.
أما بيان فساد القسم الأول: فهو أن بتقدير أن يصير مماسًا للعرش كان الطرف الأسفل منه مماسًا للعرش، فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق؟ فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماسًا لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش، فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركبًا من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض، وذلك هو القول بكونه جسمًا مركبًا من الأجزاء والأبعاض وذلك محال، وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحًا رقيقًا لا ثخن له أصلًا، ثم يعود التقسيم فيه، وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركبًا من الأجزاء والأبعاض، وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءًا لا يتجزأ مخلوطًا بالهباآت، وذلك لا يقوله عاقل.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه، فهذا أيضًا محال، لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماسًا له، وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية، فهذا أظهر فسادًا من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مباينًا للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم، ومحصورًا بين هذين الحاصرين، والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعدًا غير متناه.
فإن قيل: أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد، فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما: الأزل، والثاني: أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصورًا بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية، فكذا هاهنا، وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم.
والجواب: أن هذا هو محض المغالطة، لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم، فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدودًا بين حدين ومحصورًا بين حاصرين، وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة.
إذا عرفت هذا فنقول: إما أن نقول إنه تعالى مختص بجهة معينة، وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك، فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدودًا بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه، لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف، وكونه محصورًا بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين، وهو محال.
ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتًا معينًا كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعدًا متناهيًا لا محالة.
وأما إن قلنا بالقسم الثاني: وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة، فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة.
لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال، ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث، فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل.
الحجة الخامسة عشرة: أنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان: إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد، وليس يعقل في المكان قسم ثالث.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كان المكان هو الأول فنقول: ثبت أن أجسام العالم متناهية، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم، وإن كان المكان هو الثاني، فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز، وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثًا بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول، وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين، فيلزم كون الإله محدثًا، وهو محال.
فثبت أن القول بأنه تعالى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات.
الحجة السادسة عشرة: وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جدًّا، وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت، كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص، وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف، كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل، وتقريره أن نقول وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية، فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط، فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جدًّا.
وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض، فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة، فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعًا من التأثيرات.
وأما الهواء، فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء، فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء، فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس، وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق.
وأما النار، فإنها أقل كثافة من الهواء، فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج، وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان.
وأما الأفلاك، فإنها ألطف من الأجرام العنصرية، فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض، وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات، فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيرًا وكلما كان أقوى قوة وتأثيرًا كان أقل حجمية وجرمية وجسمية، وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظنًا قويًا أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك ألبتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة، وهذا وإن كان بحثًا استقرائيًا إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزهًا عن الجسمية والموضع والحيز.
وبالله التوفيق.
فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزهًا عن الاختصاص بالحيز والجهة.
أما الدلائل السمعية فكثيرة: أولها: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فوصفه بكونه أحدًا والأحد مبالغة في كونه واحدًا.
والذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبًا من أجزاء كثيرة جدًّا فوق أجزاء العرش، وذلك ينافي كونه أحدًا ورأيت جماعة من الكرامية عند هذا الإلزام يقولون إنه تعالى ذات واحدة، ومع كونها واحدة حصلت في كل هذه الأحياز دفعة واحدة.
قالوا: فلأجل أنه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه.
فقلت حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه يجوز حصول الذات الشاغلة للحيز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم لضرورية، وأيضًا فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال: إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز، فيظن أنها أشياء كثيرة، ومعلوم أن من جوزه، فقد التزم منكرًا من القول عظيمًا.
فإن قالوا: إنما عرفنا هاهنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفنى مع بقاء الباقي وذلك يوجب التغاير، وأيضًا فنرى بعضها متحركًا، وبعضها ساكنًا والمتحرك غير الساكن، فوجب القول بالتغاير، وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله، فظهر الفرق، فنقول: أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه يفنى ذلك الجزء الآخر، وذلك يوجب التغاير.
فنقول: لا نسلم أنه فني شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط؟ ثم إنه حصل هاهنا وهناك، وأيضًا حصل موصوفًا بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم، فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك، فأما أن يقال إنه فني في نفسه، فهذا غير مسلم، وأما قوله: نرى بعض الأجسام متحركًا وبعضها ساكنًا، وذلك يوجب التغاير، لأن الحركة والسكون لا يجتمعان.
فنقول: إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين، فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا، وأن المتحرك ليس هنا قضينا أن المتحرك غير الساكن.
وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة، يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معًا، لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا، وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر، إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معًا لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة، فثبت أنه لو جاز أن يقال إنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة، ثم مع ذلك يمتلئ العرش منه، لم يبعد أيضًا أن يقال: العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ، ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز، وحصل منه كل العرش ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات.
وثانيها: أنه تعالى قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] فلو كان إله العالم في العرش، لكان حامل العرش حاملًا للإله، فوجب أن يكون الإله محمولًا حاملًا، ومحفوظًا حافظًا، وذلك لا يقوله عاقل.
وثالثها: أنه تعالى قال: {والله الغنى} [محمد: 38] حكم بكونه غنيًا على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنيًا عن المكان والجهة.
ورابعها: أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] ففي المرة الأولى قال: {رَبِّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الدخان: 7] وفي الثانية قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] وفي المرة الثالثة: {قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال: {ياهامان ابن لِى صَرْحًا لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} [غافر: 36، 37] فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى، وسائر جميع الأنبياء، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة.
وخامسها: أنه تعالى قال في هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} وكلمة {ثم} للتراخي وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار، لزم أن يقال: إنه ما كان مستقرًا على العرش، بل كان معوجًا مضطربًا، ثم استوى عليه بعد ذلك، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة، والسكون أخرى، وذلك لا يقوله عاقل.
وسادسها: هو أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه إنما طعن في إلهية الكوكب والقمر والشمس بكونها آفلة غاربة فلو كان إله العالم جسمًا، لكان أبدًا غاربًا آفلًا.